فصل: ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة

  ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت من الشام

في هذه السنة حادي عشر ذي الحجة ملك الفرنج طرابلس‏.‏

وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها والمدد يأتي إليها منه وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة‏.‏

فلما كانت هذه السنة أول شعبان وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال والسلاح والميرة فنزل على طرابلس وكان نازلًا عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل وليس بابن أخت ريمند هذا بل هو قمص آخر فجرى بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها معونة للسرداني ووصل الملك بغدوين صاحب القدس في عسكره فأصلح بينهم ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها من أول شعبان وألصقوا أبراجهم بسورها فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم وذلت نفوسهم وزادهم ضعفًا تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة‏.‏

وكان سبب تاخره‏:‏ أنه فرغ منه والحث عليه واختلفوا فيه أكثر من سنة وسار فردته الريح فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهرًا يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ونهبوا ما فيها وأسروا الرجال وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأموال وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يحد ولا يحصى فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالًا وتجارة وسلم الوالي الذي كان بها وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها فوصلوا إلى دمشق وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم‏.‏

لما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري صاحب أنطاكية إلى بانياس وحصرها وافتتحها وأمن أهلها ونزل مدينة جبيل وفيها فخر الملك بن عمار الذي كان صاحب طرابلس وكان القوت فيها قليلًا فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان وخرج فخر الملك بن عمار سالمًا‏.‏

ووصل عقيب ملك طرابلس الأسطول المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام للقضاء النازل بأهلها وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيدا وبيروت‏.‏

وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني واحترمه وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل وسار إلى دمشق فأنزله طغتكين صاحبها وأجزل له في الحمل والعطية وأقطعه أعمال الزبداني وهو عمل كبير من أعمال دمشق وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة‏.‏

  ذكر الحرب بين محمد خان وساغربك

في هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها فأرسل محمد إلى سنجر يستنجده فسير إليه الجنود واجتمع معه أيضًا كثير من العساكر وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكر السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة ألموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية فحصروهم وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضًا‏.‏

وفيها في ربيع الآخر قدم السلطان إلى بغداد وعاد عنها في شوال من السنة أيضًا‏.‏

وفيها في شعبان توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع فوثب به الباطنية فضربوه بالسكاكين وجرح في رقبته فبقي مريضًا مدة ثم برأ وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر ثم سئل عن أصحابه فأقر على جماعة بمسجد المأمونية فأخذوا وقتلوا‏.‏

وفيها عزل وزير الخليفة وهو أبو المعالي بن المطلب ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير وفيها جهز يحيى بن تميم صاحب إفريقية خمسة عشر شينيًا وسيرها إلى بلاد الروم فلقيها أسطول الروم وهو كبير فقاتلوهم وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر‏.‏

وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس واليًا عليها فثار به أهلها فنهبوا قصره وهموا بقتله فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم حتى فرق كلمتهم وبدد شملهم وملك رقابهم فسجنهم وعفا عن دمائهم وذنوبهم‏.‏

وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال صاحب آمد وكان قبيح السيرة مشهورًا بالظلام فجلا كثير من أهلها لجوره وملك بعده ولده وكان أصلح حالًا منه‏.‏

وفيها في ثامن ذي القعدة ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة ثم غاب‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة

  ذكر ملك الفرنج مدينة صيدا

في هذه السنة في ربيع الآخر ملك الفرنج مدينة صيدا من ساحل الشام‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركبًا للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام فرحلوا من القدس ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة وضايقوها برًا وبحرًا‏.‏

وكان الأسطول المصري مقيمًا على صور فلم يقدر على إنجاد صيدا فعمل الفرنج برجًا من الخشب وأحكموه وجعلوا عليه ما يمنع النار عنه والحجارة وزحفوا به فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم وأموالهم والعسكر الذي عندهم ومن أراد المقام بها عندهم أمنوه ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه وحلف لهم على ذلك فخرج الوالي وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يومًا‏.‏

ورحل بغدوين عنها إلى القدس ثم عاد إلى صيدا بعد مدة يسيرة فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار فأفقرهم واستغرق أموالهم‏.‏

كانت عسقلان للعلويين المصريين ثم إن الخليفة الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنسانًا يعرف بشمس الخلافة فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام وهادنه وأدى إليه مالًا وعروضًا فامتنع به من أحكام المصريين عليه إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك‏.‏

فوصلت الأخبار بذلك إلى الآمر بأحكام الله صاحب مصر وإلى وزيره الأفضل أمير الجيوش فعظم الأمر عليهما وجهزا عسكرًا وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده وأظهرا أنه يريد الغزاة ونفذا إلى القائد سرًا أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم ويقيم هو عوضه بعسقلان أميرًا‏.‏

فسار العسكر فعرف شمس الخلافة الحال فامتنع من الحضور عند العسكر المصري وجاهر بالعصيان وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفًا منهم‏.‏

فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج فأرسل إليه وطيب قلبه وسكنه وأقره على عمله وأعاد عليه إقطاعه بمصر‏.‏

ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جندًا ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة فأنكر الأمر أهل البلد فوثب به قوم من أعيانه وهو راكب فجرجروه فانهزم منهم إلى داره فتبعوه وقتلوه ونهبوا داره وجميع ما فيها ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل فسرا بذلك وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة وأرسلا إليه واليًا يقيم به ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة فتم ذلك وزال ما كانوا يخافونه‏.‏

  ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب

في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج وحشد الفارس والراجل وسار نحو حصن الأثارب وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ وحصره ومنع عنه الميرة فضاق الأمر على من به من المسلمين فنقبوا من القلعة نقبًا قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني فعرفه الحال فاحتاط واحترز منهم وجد في قتالهم حتى ملك الحصن قهرًا وعنوة وقتل من أهله ألفي رجل وسبى وأسر الباقين‏.‏

ثم سار إلى حصن زردنا فحصره ففتحه وفعل بأهله مثل الأثارب فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفًا من الفرنج وكذلك أهل بالس وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس فعادوا عنهما‏.‏

وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا فطلب أهلها منهم الأمان فأمنوهم وتسلموا البلد فعظم خوف المسلمين منهم وبلغت القلوب الحناجر وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة فصالحهم الملك رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وغيرها من الخيول والثياب وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار وصالحهم ابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار وصالحهم علي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها‏.‏

ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة فوقع عليها مراكب الفرنج فأخذوها وغنموا ما مع التجار وأسروهم فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد مستنفرين على الفرنج‏.‏

فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان واستغاثوا ومنعوا من الصلاة وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد وسير من دار الخلافة منبرًا إلى جامع السلطان‏.‏

فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة ومعهم أهل بغداد فمنعهم حاجب الباب من الدخول فغلبوه على ذلك ودخلوا الجامع وكسروا شباك المقصورة وهجموا إلى المنبر فكسروه وبطلت الجمعة أيضًا

فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم والتجهز للجهاد وسير ولده الملك مسعودًا مع الأمير مودود صاحب الموصل وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيروا إلى قتال الفرنج وانقضت السنة وساروا في سنة خمس وخمسمائة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عزل نظام الملك أحمد من وزارة السلطان ووزر بعده الخطير محمد بن الحسين الميبذي‏.‏

وفيها ورد رسول ملك الروم إلى السلطان يستنفره على الفرنج ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد وكان وصول أهل حلب وكان أهل حلب يقولون للسلطان‏:‏ أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام حتى قد أرسل إليك في جهادهم‏.‏

وفيها في رمضان زفت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة وزينت بغداد وغلقت وكان بها فرحة عظيمة لم يشاهد الناس مثلها‏.‏

وفيها هبت بمصر ريح سوداء أظلمت بها الدنيا وأخذت بأنفاس الناس ولم يقدر أحد أن يفتح عينيه ومن فتحهما لا يبصر يده ونزل على الناس رمل ويئس الناس من الحياة وأيقنوا بالهلاك ثم تجلى قليلًا وعاد إلى الصفوة وكان ذلك من أول وقت العصر إلى بعد المغرب‏.‏

وفيها في المحرم توفي الكيا الهراس الطبري واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي وكان من أعيان الفقهاء الشافعية أخذ الفقه عن إمام الحرمين الجويني ودرس بعده في النظامية ببغداد وتوفي بها ودفن عند تربة الشيخ أبي إسحاق ودرس بعده في النظامية الإمام أبو بكر الشاشي‏.‏

وفيها توفي أبو الحسين إدريس بن حمزة بن علي الرملي الفقيه الشافعي من أهل الرملة بفلسطين تفقه على أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وعلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ودخل خراسان وولي التدريس بسمرقند فتوفي بها‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

  ذكر مسير العساكر إلى قتال الفرنج

في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج فكانوا‏:‏ الأمير مودود صاحب الموصل والأمير سكمان القطبي صاحب تبريز وبعض ديار بكر والأميرين إيلبكي وزنكي ابني برسق ولهما همذان وما جاورها والأمير أحمديل وله مراغة وكوتب الأمير أبو الهيجاء صاحب إربل والأمير إيلغازي صاحب ماردين والأمراء البكجية باللحاق بالملك مسعود ومودود فاجتمعوا ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده إياز وأقام هو فلما اجتمعوا ساروا إلى بلدة سنجار ففتحوا عدة حصون للفرنج وقتل من بها منهم وحصروا مدينة الرها مدة ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها‏.‏

وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها فارسها وراجلها وساروا إلى الفرات ليعبروه ليمنعوا الرها من المسلمين فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين فلم يقدموا عليه وأقاموا على الفرات فلما رأى المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم‏.‏

فلما رحلوا عنها جاء الفرنج ومعهم الميرة والذخائر إلى الرها فجعلوا فيها كل من فيه عجز وضعف وفقر وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي وطرقوا أعمال حلب فأفسدوا ما فيها ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا خلقًا كثيرًا‏.‏

وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان صاحب حلب إلى ما أخذه الفرنج من أعمالها فاستعاد بعضه ونهب منهم وقتل فلما عادوا وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا‏.‏

وأما العسكر السلطاني فلما سمعوا بعود الفرنج وعبورهم الفرات رحلوا إلى الرها وحصروها فرأوا أمرًا محكمًا قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم وبكثرة المقاتلين عنهم ولم يجدوا فيهم مطمعًا فرحلوا عنها وعبروا الفرات فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يومًا ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضًا‏.‏

ووصلوا إلى حلب فأغلق الملك رضوان أبواب البلد ولم يجتمع بهم ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي فعاد مريضًا فتوفي في بالس فجعله أصحابه في تابوت وحملوه عائدين إلى بلاده فقصدهم إيلغازي ليأخذهم ويغنم ما معهم فجعلوا تابوته في القلب وقاتلوا بين يديه فانهزم إيلغازي وغنموا ما معه وساروا إلى بلادهم‏.‏

ولما أغلق الملك رضوان أبواب حلب ولم يجتمع بالعساكر السلطانية رحلوا إلى معرة النعمان واجتمع بهم طغتكين صاحب دمشق ونزل على الأمير مودود فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه فخاف أن تؤخذ منه دمشق فشرع في مهادنة الفرنج سرًا وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين فلم يتم ذلك وتفرقت العساكر‏.‏

وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق بن برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس فهو يحمل في محفة ومات سكمان القطبي كما ذكرنا وأراد الأمير أحمديل صاحب مراغة العود ليطلب من السلطان أن يقطعه ما كان لسكمان من البلاد وأتابك طغتكين صاحب دمشق خاف الأمراء على نفسه فلم ينصحهم إلا أنه حصل بنيه وبين مودود صاحب الموصل مودة وصداقة فتفرقوا لهذه الأسباب وبقي مودود وطغتكين بالمعرة فساروا منها ونزلوا على نهر العاصي‏.‏

ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا وكانوا قد اجتمعوا كلهم بعد الاختلاف والتباين وساروا إلى أفامية فسمع بهم سلطان بن منقذ صاحب شيزر فسار إلى مودود وطغتكين وهون عليهما أمر الفرنج وحرضهما على الجهاد فرحلوا إلى شيزر ونزلوا عليها ونزل الفرنج بالقرب منهم فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة ولزوهم بالقتال والفرنج يحفظون نفوسهم ولا يعطون مصافًا فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى أفامية وتبعهم المسلمون فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول‏.‏

  ذكر حصر الفرنج مدينة صور

لما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها فساروا إليها مع الملك بغدوين صاحب القدس وحشدوا وجمعوا ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب علو البرج سبعون ذراعًا وفي كل برج ألف رجل ونصبوا عليها المجانيق وألصقوا أحدها إلى سور البلد وأخلوه من الرجال‏.‏

وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز فأحضر أهل البلد واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام ومع كل رجل منهم حزمة حطب فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة فألقى الحطب من جهاته وألقى فيه النار ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار ويتخلصوا فرماهم بجرب كان قد أعدها مملوءة من العذرة فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث فتمكنت النار منه فهلك كل من به إلا القليل وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب ثم أخذ سلال العنب الكبار وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط والزفث والكتان والكبريت ورماهم بسبعين سلة وأحرق البرجين الآخرين‏.‏

ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج وأعلموهم بما عملوه فحذروا منها‏.‏

وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق يستنجدونه ويطلبونه ليسلموا البلد إليه فسار في عساكره إلى نواحي بانياس وسير إليهم نجدة مائتي فارس فدخلوا البلد فامتنع من في بهم واشتد قتال الفرنج خوفًا من اتصال النجدات ففني نشاب الأتراك فقاتلوا بالخشب وفني النفط فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه‏.‏

ثم إن عز الملك صاحب صور أرسل الأموال إلى طغتكين ليكثر من الرجال ويقصدهم ليملك البلد فأرسل طغتكين طائرًا فيه رقعة ليعلمه وصول المال ويأمره أن يقيم مركبًا بمكان ذكره لتجيء الرجال إليه فسقط الطائر على مركب الفرنج فأخذه رجلان‏:‏ مسلم وفرنجي فقال الفرنجي‏:‏ نطلقه لعل فيه فرجًا لهم فلم يمكنه المسلم وحمله إلى الملك بغدوين فلما وقف عليه سير مركبًا إلى المكان الذي ذكره طغتكين وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور فوصل إليهم العسكر فكلموهم بالعربية فلم ينكرونهم وركبوا معهم فأخذوهم أسرى وحملوهم إلى الفرنج فقتلوهم وطمعوا في أهل صور فكان طغتكين يغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها وقصد حصن الحبيس في السواد من أعمال دمشق وهو للفرنج فحصره وملكه بالسيف وقتل كل من فيه وعاد إلى الفرنج الذين على صور‏.‏

وكان يقطع الميرة عنهم في البر فأحضروها في البحر وخندقوا عليهم ولم يخرجوا إليه فسار إلى صيدا وأغار على ظاهرها فقتل جماعة من البحرية وأحرق نحو عشرين مركبًا على الساحل وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم فساروا عن البلد عاشر شوال إلى عكة وعاد عسكر طغتكين إليه وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها وكان الفرنج قد طموه‏.‏

  ذكر انهزام الفرنج بالأندلس

في هذه السنة خرج أذفونش الفرنجي صاحب طليطلة بالأندلس إلى بلاد الإسلام بها يطلب ملكها والاستيلاء عليها وجمع وحشد فأكثر وكان قد قوي طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبر فسار إليه في عساكره وجموعه فلقيه فاقتتلوا واشتد القتال وكان الظفر للمسلمين وانهزم الفرنج وقتلوا قتلًا ذريعًا وأسر منهم بشر كثير وسبى منهم وغنم من أموالهم ما يخرج من الأحصاء فخرج الفرنج بعد ذلك وامتنعوا من قصد بلاده وذل أذفونش حينئذ وعلم أن في البلاد حاميًا لها و في هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الإمام المشهور‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وخمسمائة

في هذه السنة في المحرم سار مودود صاحب الموصل إلى الرها فنزل عليها ورعى عسكره زروعها ورحل عنها إلى سروج وفعل بها كذلك وأهمل الفرنج ولم يحترز منهم فلم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل باشر قد كبسهم وكانت دواب العسكر منتشرة في المرعى فأخذ الفرنج كثيرًا منها وقتلوا كثيرًا من العسكر فلما تأهب المسلمون للقائه عاد عنهم إلى سروج‏.‏

وفيها رحل السلطان محمد من بغداد وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر فلما وصل إلى أصبهان قبض على زي الملك أبي سعد القمي وسلمه إلى الأمير كاميار لعداوة بينهما فلما وصل إلى الري أركبه كاميار على ردابة بمركب ذهب وأظهر أن السلطان خلع عليه على مال قرره عليه فحصل بذلك مالًا كثيرًا من أهل القمي ثم صلبه وكان سبب قبضه أنه كان يكثر الطعن على الخليفة والسلطان‏.‏

وفيها كان ببغداد رجل مغربي يعمل الكيمياء بزعمه اسمه أبو علي فحمل إلى دار الخلافة وكان آخر العهد به‏.‏

وفيها ورد إلى بغداد يوسف بن أيوب الهمذاني الواعظ وكان من الزهاد العابدين فوعظ الناس بها فقام إليه رجل متفقه يقال له ابن السقاء فآذاه في مسألة وعاوده فقال له‏:‏ اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر ولعلك تموت على غير دين الإسلام فاتفق بعد مديدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم وتنصر‏.‏

وفيها في ذي القعدة سمع ببغداد صوت هدة عظيمة ولم يكن بالسماء غيم حتى يظن أنه صوت رعد ولم يعلم أحد أي صوت كان‏.‏

وفيها توفي بسيل الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن لاون فسار طنكري صاحب أنطاكية أول جمادى الآخرة إلى بلاده طمعًا في أن يملكها فمرض في طريقه فعاد إلى أنطاكية فمات ثامن جمادى الآخرة وملكها بعده ابن أخته سرخالة واستقام الأمر فيها بعد أن جرى بين الفرنج خلف بسببه فأصلح بينهم القسوس والرهبان‏.‏

وفيها توفي قراجة صاحب حمص وكان ظالمًا وقام ولده قرجان مكانه وكان مثله في قبح السيرة‏.‏

و في هذه السنة توفي المعمر بن علي أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ البغدادي ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة وكان له خاطر حاد ومجون حسن وكان الغالب على وعظه أخبار الصالحين‏.‏

وتوفي أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري والد شهدة وكان يروي عن أبي يعلى بن الفراء وابن المأمون وابن المهتدي وابن النقور وغيرهم وكان حسن السيرة متزهدًا‏.‏

وتوفي أبو العلاء صاعد بن منصور بن إسماعيل بن صاعد الخطيب النيسابوري وكان من أعيان الفقهاء وولي قضاء خوارزم وكان يروي الحديث‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة

  ذكر قتال الفرنج وانهزامهم وقتل مودود

في هذه السنة في المحرم اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التونتكين صاحب الموصل وتميرك صاحب سنجار والأمير إياز بن إيلغازي وطغتكين صاحب دمشق‏.‏

وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق ونهبه وخربه أواخر سنة ست وخمسمائة وانقطعت المواد عن دمشق فغلت الأسعار فيها وقلت الأقوات فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال ويستنجده ويحثه على سرعة الوصول إليه فجمع عسكرًا وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة فخافه الفرنج‏.‏

وسمع طغتكين خبره فسار إليه ولقيه بسلمية واتفق رأيهم على قصد بغدوين ملك القدس فساروا إلى الأردن فنزل المسلمون عند الأقحوانة ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين وجوسلين صاحب جيشهم وغيرهما من المقدمين والفرسان المشهورين ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود وجمع الفرنج فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم واشتد القتال وصبر الفريقان ثم إن الفرنج انهزموا وكثر القتل فيهم والأسر وممن أسر ملكهم بغدوين فلم يعرف فأخذ سلاحه وأطلق فنجا وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية فقويت نفوسهم بهم وعاودوا الحرب فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية فأقاموا به ستة وعشرين يومًا والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم فلم يخرج منهم أحد فسار المسلمون إلى بيسان ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس وخربوها وقتلوا من ظفروا به من النصارى وانقطعت المادة عنهم لبعدهم وأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة وبقي في خواصه ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع‏.‏

فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول ليصلي فيه وطغتكين فلما فرغوا من الصلاة وخرج إلى صحن الجامع ويده في يد طغتكين وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربح جراحات وقتل الباطني وأخذ رأسه فلم يعرفه أحد فأحرق‏.‏

وكان صائمًا فحمل إلى دار طغتكين واجتهد به ليفطر فلم يفعل وقال‏:‏ لا لقيت الله إلا صائمًا فمات من يومه رحمه الله فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله‏.‏

وكان خيرًا عادلًا كثير الخير حدثني والدي قال‏:‏ كتب ملك الفرنج إلى طغتكين بعد قتل مودود كتابًا من فصوله‏:‏ أن أمّة قتلت عميدها‏.‏

يوم عيدها‏.‏ في بيت معبودها‏.‏

لحقيق على الله أن يبيدها‏.‏

ولما قتل تسلم تميرك صاحب سنجار ما معه من الخزائن والسلاح وحملها إلى السلطان ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق صاحبها وحمل بعد ذلك إلى بغداد فدفن في جوار أبي حنيفة ثم حمل إلى أصبهان‏.‏

في هذه السنة كثر الحديث عند سنجر‏:‏ أن محمد خان بن سليمان بن داود قد مد يده إلى أموال الرعايا وظلمهم ظلما كثيرًا وأنه خرب البلاد بظلمه وشره وأنه قد صار يستخف بأوامر سنجر ولا يلتفت إلى شيء منها فتجهز سنجر وجمع عساكره وسار يريد قصده بما وراء النهر فخاف محمد خان فأرسل إلى الأمير قماج وهو أكبر أمير مع سنجر يسأله أن يصلح الحال بينه وبين سنجر وأرسل أيضًا إلى خوارزمشاه بمثل ذلك وسألهما في إرضاء السلطان عنه واعترف بأنه أخطأ فأجاب سنجر إلى صلحه على شرط أن يحضر عنده ويطأ بساطه فأرسل محمد خان يذكر خوفه لسء صنيعه ولكنه يحضر الخدمة ويخدم السلطان وبينهما نهر جيحون ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده والدخول إليه فحسنوا الإجابة إلى ذلك والاشتغال بغيره فامتنع ثم أجاب‏.‏

وكان سنجر على شاطئ جيحون من الجانب الغربي وجاء محمد خان إلى الجانب الشرقي فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب وعاد كل واحد منهما إلى خيامه ورجعوا إلى بلادهم وسكنت الفتنة بينهما‏.‏